من ذاكرة الاعتقال | حِداد وحِداء في سجن عَتليت

كانت ظروف الاعتقال قاسية ومربكة، فعدى عن أعمال السخرة التي أُجبر عليها المعتقلون، كانت يوميات المُعتقل في الخيام قاسية، في شرد الصيف وبرد الشتاء، وكثيرا ما استخدم المعتقلون خيامهم التي كانت تقيهم نهارا

من ذاكرة الاعتقال | حِداد وحِداء في سجن عَتليت

قلعة عتليت... من حصن إلى سجن (أرشيفية)

كانت أكبر حَملة اعتقال قام بها الصهاينة بحق فلسطينيي الداخل، تعود إلى عاميّ 1948 – 1949، وذلك مع أحداث الطرد والتهجير في النكبة. بدأت حَملة الاعتقالات منذ نيسان/ أبريل سنة 1948، واستمرت على مدار عام، وامتدت حتى العام الذي تلاه، ووصل فيه عدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين إلى ما يزيد عن 10 آلاف أسير ومعتقل(1).

تنوعت دوافع الأسر والاعتقال، التي كانت تجري في ظل أعمال الطرد والاقتلاع، من بينها اشتباه الصهاينة واتهامهم لبعض المُعتقلين العرب بحملهم السلاح ضد المهاجرين اليهود منذ ثورة 1936 – 1939، مرورا بحوادث سنوات الأربعينيات، وصولا إلى أحداث النكبة ومجابهة العصابات الصهيونية. لم يَعتقل الصهاينة فقط من حَمل أو حاول حمل السلاح، إنما أيضا كل من كان بنظرهم قادرا على حمل السلاح، ما بين سن 15 إلى 60 من الرجال.

ومن دوافع الاعتقال غير السلاح والاشتباه بحمله، كانت حاجة الدولة العبرية الناشئة إلى قوى بشرية وأيدٍ عاملة من أجل تسخيرها في أعمال البناء والإنشاء وشق الطرقات وتعبيدها(2). والأسوء من ذلك، هو استخدام الصهاينة للمعتقلين وإرغامهم على العمل في تفريغ بيوت القرى المُهجرة قبل هدمها، ونقل اللازم منها من فراش وأثاث إلى مستعمرات المهاجرين اليهود.

في كتابهما "أسرى بلا حِراب" دوّن كل من الباحث مصطفى كبها والصحافي وديع عواودة، عشرات الروايات الشفوية، التي جاءت على ألّسنة بعض من اعتُقلوا في حينه، وقد تحدثوا فيها عن حملات الاعتقال ومداهمات القرى العربية، وتحديدا القرى الباقية - الناجية من أحداث سنة 1948، وأخذ بعض رجالها منها، بعد أن كان يجري إعدام بعضهم الآخر ميدانيا، وعلى مرأى من ذويهم.

إلى عَتليت

لم تترك عصابات "الهاغاناه" قرية عربية من قرى عرب الداخل الباقين، إلا وشدت وثاق بعضٍ من أبنائها، ونقلتهم في حافلات خصصها الصهاينة لنقل المُعتقلين. كان يجري تجميع الرجال في ساحة عامة من القرية أو المدينة، ثم يجري زجّهم في الحافلة، بعدها كان يصعد أحد ضباط "الهاغاناه" مناديا على أسماء المُعتقلين، دون أن ينسى بأوامر عُليا القول بعربية ركيكة :"إلّي من الطائفة الفلانية أو العائلة الفلانية ينزل عالبيت"!(3). تكرر هذا التصنيف في أكثر من قرية عربية بحسب شهادات المُعتقلين، مما ترك خدشا اجتماعيا ظلّ مسترخيا في ذاكرة بعض سكان قُرى ومُدن فلسطينيي الداخل، عن شكل التعاون ومحاباة الصهاينة في حينه.

ما إن كانت تتحرك الحافلة إلى خارج القرية أو المدينة، حتى تقف مجددا خارجها، ليجري إنزال المُعتقلين على طريق تُرابيّ، ثم يُطلب منهم جَبل التراب بالماء بأيديهم، وتحويله إلى طين. ثم طَليّ نوافذ الحافلة بالطين المجبول، وذلك بغرض حَجب الرؤية، لئلا يتعرف المعتقلون إلى الطريق، ووجهة الحافلة التي كانت تقلهم إليها(4). الأمر الذي كان يبعثُ في صدور الأسرى والمعتقلين خوفا وفزعا حول مصيرهم وقتها.

إلى مًعسكرات قلعة عكا، وحيفا الذي أُطلق عليه اسم "نقطة أبو مسنسل"، وكذلك إلى مُعتقل إم خالد، وإجليل وصرفند، وحتى إلى مُعتقل "نفيه شأنان" في القدس، كانت تُقِلّ الحافلات مُعتَقَليها. غير أن مُعتقل عتليت، ظلَ الأكثر سطوة ووطأة على ذاكرة أسراه ومُعتقليه.

كان مُعتقل عتليت معسكرا لقوات الانتداب البريطانية قبل النكبة، إذ أقامه الإنجليز في بلدة عتليت جنوبي حيفا على بعد 15كم. حوّله الصهاينة إلى مُعتقل في الأسبوع الأخير من شهر تموز/ يوليو 1948، وعُرف باسم "مُعتقل مركزي رقم 2" أو "مُعتقل 792"، وكان معظم معتقلي عتليت عند إقامته من أبناء قرى الجليل.

اختلف الصهاينة حول هوية "الاعتقال"، أي ما بين اعتبار الفلسطينيين في المُعتقلات أسرى حرب أم معتقلين، ودار جدلٌ قانوني حول ذلك، خصوصا مع إعلان تأسيس دولة إسرائيل. في الأخير، ارتأت القيادات الصهيونية، اعتبار كل سجين فلسطيني اقتلعت قريته أو مدينته؛ أسير حرب، بينما اعتبر كل سجين ظلت قريته باقية داخل حدود الدولة العبرية "مُعتقلا" لديها (5). وبالتالي، كان كل سجناء فلسطينيي الداخل مُعتقلين، لا أسرى حرب.

كانت ظروف الاعتقال قاسية ومربكة، فعدى عن أعمال السخرة التي أُجبر عليها المعتقلون، كانت يوميات المُعتقل في الخيام قاسية، في شرد الصيف وبرد الشتاء، وكثيرا ما استخدم المعتقلون خيامهم التي كانت تقيهم نهارا، غطاءً لهم في الليل، بينما استعانوا بأحذيتهم مِخدات تحت رؤوسهم. فضلا عن سوء التغذية وطعام السجن الذي لم يكن يصلح للدواب في كثير من الأحيان، وهذا غير فتح النار والإعدامات الميدانية لبعض المعتقلين التي كانت تجري بين حينٍ وآخر، لمجرد غضب أحد السجّانين أو شعوره بالضجر.

أضرب المعتقلون عن الطعام، وحدّوا على المذبوحين منهم، وعارَكوا السجّانين وحراس المُعتقل أحيانا، ورغم كل مآسيهم وخوفهم على مصيرهم ومصير أهاليهم خارج شريط المُعتقل، حيث دم أبناء شعبهم ما زال ساخنا على الأرض، إلا أن وسائل ابتكار الحياة والأمل ظلت تُطل برأسها من داخل شريط معتقل عتليت. ومنها الغِناء والحِداء، خصوصا وأن "أولاد حميّد" من دير الأسد كانا مُعتقلين في عتليت...

مع ولاد حميّد (الديراوية)

الشاعر – الحادي الراحل محمد الأسدي "أبو سعود" وأخوه الراحل أيضا قاسم الأسدي "أبو غازي" المعروفان بـ"أولاد حميّد" من قرية دير الأسد في حينه، واللذان سيكونان من أشهر شعراء الحِداء وإحياء الأعراس في الجليل بعد النكبة، كانا من ضمن المُعتقلين في عتليت. كان أبو سعود من القلائل في المعتقل ممن يجيدون القراءة والكتابة، فكان المُعتقلون حين تصل مكاتيب مراسيلهم من ذويهم يتوجهون بها لأبي سعود، كي يقرأها لهم من على ظهر درجات السلم، وعلى مسمع الجميع في المُعتقل. وكثيرا ما كان يقفز أبو سعود عن بعض العبارات المكتوبة في المكتوب من الزوجات لأزواجهن المُعتقلين، مكتفيا بالقول "هاي بئلك إياها بيني وبينك" مع غمزٍ بعينه اليمين، فيضحك الجميع(7).

الحادي الراحل محمد الأسدي

أُعفي الحادي أبو سعود من الأعمال الشاقة خارج المُعتقل، لأنه كان مؤذن المُعتقل وإمام الصلاة فيه. وقد غنّى وأخوه أبو غازي الزجل والحِداء تخفيفا عن المعتقلين، للبلاد والأولاد غنّوا، وعن الحب والحرب، وتبدُّل الأحوال والأعمال. ولأبي سعود قصائد منشورة، نظمها من داخل معتقل عتليت لأهله في دير الأسد في الشاغور، غير أن حكاية "كاسم (قاسم) غنّي مبسوطين" ظلت أكثر المواقف تندرا وتحسرا من ذاكرة الاعتقال.

"كاسم غنّي مبسوطين"

في كانون الثاني/ يناير مطلع سنة 1949، توجه أحد ضباط مُعتقل عتليت، طالبا من المُعتقلين الاستعداد لاختيار مجموعة من بينهم للتحدث عبر إذاعة إسرائيل على الهواء من المُعتقل. كان المطلوب أن يتحدث بعضهم عن حُسن معاملة إدارة المُعتقل وسجّانيه مع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين. كانت إسرائيل في حينه، تقارع الأمم المتحدة حول شرعية وجودها والاعتراف بها، وملف المُعتقلين في المُعسكرات كان حينها، واحدا من الملفات التي استجوبت فيها الأمم المتحدة، قيادة الدولة العبرية الناشئة.

اقترح ضابط المُعتقل الذي كان يُجيد العربية أن يقدم المُعتقلين وعلى رأسهم الحادي أبو سعود، وصلة شعرية-غنائية على الهواء، تتضمن شكرا وامتنانا لإدارة المُعتقل على حُسن مُعاملة المُعتقلين التي لم يعرفوها.

تحرّج أبو سعود من الموقف، فكيف يغني للدولة التي قامت على أنقاض شعبه وعلى الهواء عبر الإذاعة الإسرائيلية؟ وهو الشاعر المعروف بمواقفه الوطنية، وقد مُنح قبل النكبة لقب "شاعر صندوق فلسطين"(8). بالمقابل كان يعرف صاحبنا أن اقتراح الضابط مُلزم، ورفضه قد يترتب عليه ما لا يُحمد عقباه. لذا، توجه أبو سعود لأخيه قاسم أبو غازي طالبا منه تولي المهمة عنه، فوافق أبو غازي رفعا للحرج عن أخيه الذي يكبره، ولأنه ليس من مكانٍ للرفض، ووافق ضابط السجن على قاسم بديلا عن أخيه.

قبل موعد البث على الهواء بيومين، توجه الضابط إلى أبو غازي مخاطبا إياه "كاسم (قاسم) استعد أنت وصحابك". فقد أراد الضابط أن يقوم أبو غازي ورفاقه بعرض تجريبي "بروفا"، لأن الإذاعة في حينه كانت تعمل بالبث الحي، ولم يكن يُعرف فيها التسجيل المُسبق، والضابط أراد التحقق مما سيقوله "كاسم" أبو غازي ورفاقه المُعتقلون.

وقف أبو غازي متقدما عن رفاقه الذين وقفوا خلفه بدور الكورَس (المرددون خلف المغني)، وبدأ بقوْل ردة على وزن القرّادي مطلعها:

إحـنا وكـل المسـاجـين

فـرحـانـين ومبسـوطـين

كل شي من الحاجة موجود

حتـى فـراش وصـوابـين (صابون)...

ثم بدأ كورس المُعتقلين الرد خلف أبو غازي "إحنا وكل المساجين...." وطرقة الأكف خجولة، بينما ضابط المُعتقل يبتسم راضيا عن شِعر شكر إدارة المُعتقل، فصفق منهيا العرض التجريبي، ومذكرا إياهم بالاستعداد للبث الحي.

كان أبو سعود قد سمع غناء أخيه أبو غازي لإدارة السجن في "البروفا"، فعاتبه بالقول: شو هاد يا قاسم؟ فردّ عليه أبو غازي: شو بدنا نعمل؟ بكفيش رفعت الحرج عنك... ولاذ أبو سعود بأخيه عن باقي المُعتقلين.

بعد يومين، وصل طاقم الإذاعة إلى مُعتقل عتليت، وجاء ضابط المُعتقل بأبي غازي وكورسه الذي زاد عن عشرين مُعتقلا، من أجل البث على الهواء. جلس أبو غازي على كرسيه متقدما عن رفاقه الذين ظلوا خلّفه وقوفا، وأعطى الضابط إشارة البدء لأبو غازي: "يالله كاسم"...

صاح أبو غازي ببيت عتابا من صُلب رأسه حزينا، لم يفهمه الضابط ولا طاقم الإذاعة، ثم طَلعَ بردة موشح بملء صوته الجبلي الرجوج:

بَـدعـي رب العِبـادي، يفـك الأسـير

وبـدي أرجع ع بلادي، الصبح بكـير...

فهب كورسه من خلفه بصوت يملؤه الحزن والغضب: "بدعي رب العبادي، يفك الأسير...". ثم قام أبو غازي عن كرسيه وأردف:

بدي أرجع ع بلادي، الصبح بكـير

أزرع أرضي لولادي، قمـح وشعير...

فهاج المعتقلون، وملأت طرقة أكفهم المُعتقل وأثير الإذاعة معا، ودموع بعضهم تسيح وحناجرهم تصيح: "بدي أرجع ع بلادي...."، بينما صوت الضابط الذي تنبه لقلب أبو غازي ورفاقه ينبعثُ رفيعا وحادا على الهواء، قال: "كاسم، كاسم غنّي مبسوطين وفرحانين"(9).

كانت إدارة معتقل عتليت قد عاقبت جميع المعتقلين وعلى رأسهم الديراوية "ولاد حميّد". أُفرج عن أبو سعود وأخيه أبو غازي ومعظم المُعتقلين الباقين، بعد أكثر من سنة على اعتقالهم. وكلما كان الديراوية يجوبون قرى الجليل والمثلث لإحياء الأعراس فيها، طوال العقود التي تلت النكبة، التقوا برفاقهم من معتقلي عتليت، ليستحضروا معا وغناء: "بدعي رب العبادي، يفك الأسير..."، ليهيج الصف ومعه طرقة الكف في أعراس بلاد الداخل، عن ذاكرة المعتقل والاعتقال، والنكبة وتبدل الأحوال.


الهوامش :

1 . اختلفت المراجع حول عدد الأسرى والمعتقلين في المُسكرات والمُعتقلات الإسرائيلية سنة 1948، وذلك بسبب أحداث النكبة في حينه.

2 . استخدام السجناء والمعتقلين في الأشغال الشاقة، في البناء وشق الطرقات وتعبيدها، هو تقليد بريطاني منذ انتدابهم على البلاد.

3 . في أكثر من رواية شفوية ورد ذكر هذا التصنيف وهذا التمييز لبعض الرجال الذين جرى إنزالهم من الحافلات لمجرد انتمائهم الطائفي أو العائلي. عن ذلك، رادع، مصطفى كبها ووديع عواودة، أسرى بلا حِراب – المعتقلون الفلسطينيون والمعتقلات الإسرائيلية الأولى 1948-1949، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص179.

4 . المرجع السابق، ص 46

5 . المرجع السابق، ص 37.

6 . مقابلة مع حفيد الشاعر الراحل أبو سعود، الشاعر تميم سعود الأسدي، في الناصرة، 18-8-2021.

7 . المرجع السابق.

8 . المرجع السابق.

9 . هذه الحكاية، نقلا عن الشاعر والأديب سعود الأسدي نجل الشاعر الراحل أبو سعود، في الناصرة، تاريخ 18-8-2021.

التعليقات